إنذار عشت مرحلتي الدراسية الأولى مع والدي .. في بيئة صالحة اسمع دعاء أمي وأنا عائد من سهري آخر الليل. اسمع صوت أبي في صلاته الطويلة ..طالما كنت أقف متعجباً من طولها ..خاصة عندما يحلو النوم أيام الشتاء البارد.. أتعجب من نفسي وأقول ..ما أصبره..كل يوم هكذا..شيء عجيب. لم أكن أعرف أن هذه هي راحة المؤمن وأن هذه هي صلاة الأخيار ..يهبون من فرشهم لمناجاة الله.. بعد المرحلة التي قطعتها في دراستي العسكرية ..ها قد كبرت وكبر معي بعدي عن الله.. على الرغم من النصائح التي أسمعها وتطرق مسامعي بين الحين والآخر .. عُينت بعد تخرجي في مدينة غير مدينتي وتبعد عنها مسافة بعيدة ..ولكن معرفتي الأولى لزملائي في العمل خففت ألم الغربة على نفسي.. انقطع عن مسامعي صوت القرآن ..انقطع صوت أمي التي توقظني للصلاة وتحثني عليها ..أصبحت أعيش وحيداً..بعيداً عن الجو الأسري الذي عشته من قبل .. تم توجيهي للعمل في مراقبة الطرق السريعة .. وأطراف المدينة للمحافظة على الأمن ومراقبة الطرق ومساعدة المحتاجين..كان عملي متجدداً وعشت مرتاحاً..أؤدي عملي بجد وإخلاص..ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج.. تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه..لكثرة فراغي..وقلة معارفي. وبدأت أشعر بالملل..لم أجد من يعينني على ديني..بل العكس هو الصحيح.. من المشاهد المتكررة في حياتي العملية الحوادث والمصابين.. ولكن كان يوما ًً مميزاً .. في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق ..نتجاذب أطراف الحديث. وفجأة سمعنا صوت ارتطام قوي.. أدرنا أبصارنا ..فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة من الاتجاه المقابل ..هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين.. حادث لا يكاد يوصف ..شخصان في السيارة في حالة خطيرة..أخرجناهما من السيارة ..ووضعناهما ممدين.. أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية..الذي وجدناه فارق الحياة..عدنا للشخصين فإذا هما في حالة الاحتضار.. هب زميلي يلقنهما الشهادة.. قولوا لا إله إلا الله ..لا إله إلا الله.. لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء..أرهبني الموقف..وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت..أخذ يعيد عليهما الشهادة.. وقفت منصتاًً..لم أحرك ساكناً شاخص العينين أنظر..لم أر في حياتي موقفاً كهذا..بل قل لم أرى الموت من قبل وبهذه الصورة..أخذ زميلي يردد عليهما كلمة الشهادة..وهما مستمران في الغناء.. لا فائدة.. بدأ صوت الغناء يخفت ..شيئاً فشيئاً..سكت الأول وتبعه الثاني..لا حراك.. فارقا الدنيا.. حملناهما إلى السيارة .. وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه..سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق.. قطع هذا الصمت صوت زميلي فذكر لي حالة الموت وسوء الخاتمة..و إن الإنسان يختم له بخير أو شر..وهذا الختام دلالة لما كان يعمله الإنسان في الدنيا غالباً. وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب الإسلامية ..وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه.. قطعنا الطريق إلى المستشفى في الحديث عن الموت والأموات..وتكتمل الصورة عندما أتذكر أننا نحمل أمواتاً بجوارنا .. خفت من الموت واتعظت من الحادثة..و صليت ذلك اليوم صلاة خاشعة.. ولكن نسيت هذا الموقف بالتدريج.. بدأت أعود لما كنت عليه..وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان منهما ..ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني.. ولا أتلهف عليها كسابق عهدي ..ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما.. من عجائب الأيام.. بعد مدة تزيد على ستة أشهر..حصل حادث عجيب..شخص يسير بسيارته سيراً عادياً..تعطلت سيارته..في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة.. ترجل من سيارته ..لإصلاح العطل في أحد العجلات..عندها وقف خلف سيارته..لكي ينزل العجلة السليمة .. جاءت سيارة مسرعة ..وارتطمت به من الخلف..سقط مصاباً إصابات بالغة.. حضرت أنا وزميل آخر غير الأول..وحملناه معنا في السيارة و قمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله .. شاب في مقتبل العمر ..متدين يبدو ذلك من مظهره.. عندما حملناه سمعناه يهمهم .. ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول. ولمن عندما وضعناه في السيارة وسرنا.. سمعنا صوتاً مميزاً.. إنه يقرأ القرآن ..وبصوت ندي ..سبحان الله لا تقول هذا مصاب .. الدم قد غطى ثيابه .. وتكسرت عظامه..بل هو على ما يبدو على مشارف الموت.. استمر يقرأ بصوت جميل..يرتل القرآن.. لم اسمع في حياتي مثل تلك القراءة ..كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة مثل ما فعل زميلي الأول ..خاصة وأن لي سابق خبرة كما أدعي.. أنصت أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم .. أحسست أن رعشة سرت في جسدي..وبين أضلاعي.. فجأة سكت ذلك الصوت..التفت إلى الخلف..فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد.. ثم انحنى رأسه .. قفزت إلى الخلف..لمست يده..قلبه..أنفاسه..لا شيء..فارق الحياة.. نظرت إليه طويلاً..سقطت دمعة من عيني..أخفيتها عن زميلي ..ألتفت إليه وأخبرته أن الرجل قد مات..انطلق زميلي في البكاء..أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف ..أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً. وصلنا المستشفى.. أخبرنا كل من قابلناه عن قصة الرجل..الكثير تأثروا من حادثة موته وذرفت الدموع..أحدهم بعدما سمع قصة الرجل ذهب وقبل جبينه.. الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يصلى عليه ليتمكنوا من الصلاة عليه. اتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى .. وكان المتحدث أخوه..قال عنه..أنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية..كان يتفقد الأرامل و الأيتام..والمساكين..كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية..وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين..وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها..وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق..إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن و مراجعته..وسماع الأشرطة والمحاضرات الدينية..وأنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها.. من الغد..غص المسجد بالمصلين ..صليت عليه مع جموع من المسلمين الكثيرة..وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة..أدخلناه في تلك الحفرة الضيقة.. وجهوا وجهه للقبلة .. بسم الله وعلى ملة رسول الله .. بدأنا نهيل عليه التراب. اسألوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل.. استقبل أول أيام الآخرة..وكأنني استقبلت أول أيام الدنيا..تبت مما عملت عسى الله أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير..وأن يجعل قبري وقبر كل مسلم روضة من رياض الجنة..
11/8/2008